في فعالياته الثانية لهذا العام، ناقش «منتدى البحرين للكتاب»، كتابٌ غنيٌ بمادتهِ، واسعُ بتشعبه، مؤثرٌ بما أحدثهُ من ردود فعل على المستوى الفكري. وهو كتاب «العقل الأخلاقي العربي»، للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، الذي ختم بهِ سلسلة نقدهِ للعقل العربي، متناولاً موضوعاً رأى بأنهُ مسكوتُ عن تحليله ونقده، ومثارٌ حولهُ اللغط، في كون العرب والمسلمين لم ينتجوا لا في الجاهلية ولا الإسلام، «فكراً أخلاقياً باستثناء بعض فلاسفتهم من آراء في إطار ما نقلوه عن فلاسفة اليونان».
في هذا الكتاب، الذي تناولتهُ الدكتورة إنتصار البناء بالاستعراض، مساء الاثنين (25 فبراير)، بـ«مركز عيسى الثقافي»، يبين الجابري أن «العقل الأخلاقي العربي هو عقل متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته، وهو متعدد في تكوينه لأن الثقافة العربيةالإسلامية كانت ولا تزال مسرحاً تلتقي فيه عدة مورثات ثقافية»، وهذا ما ستبينهُ البناء بشكلٍ موجزٍ، فانطلاقاً من سؤال الجابري، تنطلقُ البناء، إذ تبين «ينطلقُ الجابري في كتابهِ من سؤال كبير: هل ثمة علم أخلاق عربي كما لدى الأمم والثقافات الأخرى؟ وهل صحيحُ بأن العرب والمسلمين لم ينتجوا علماً أخلاقياً نظراً لاعتمادهم على النصوص المقدسة القيمية؟».
ولإيضاح ذلك، تتبعُ البناء التسلسل الذي اتبعهُ في بحثه، مبينةً «ينطلق الجابري في طرحه لمفهوم العقل الأخلاقي، من الأزمة الأخلاقية التي يعتبرها الأولى في العالم الإسلامي، وهي الأزمة التي بدأت بسقيفة بني ساعدة، وصولاً للفتنة الكبرى وما تلاها، إذ يشرحُ مجريات الأمور ليبين أن أسباب هذه الفتن، عائد للعقل العربي، ثم ليبين ما أورثتهُ هذه الفتن والصراعات من أزمة قيم في الثقافة العربية الإسلامية، انشأت ظواهر غريبة، تضاعفت مع اختلاط العربي بالثقافات الأخرى، خاصة في الكوفة والبصرة».
لهذا توضح البناء، بأن الجابري يرى بأن نظام القيم العربي ليس نظاماً واحداً «بل هناك خمس أنظمة: نظام القيم الفارسي، واليوناني، والصوفي، والعربي الصرف، والإسلامي الصرف». وقد خصص الجابري الباب الأول من كتابه، لتبيان التأثير الفارسي أو (أخلاق الطاعة)، على الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي، وكيف أنهُ لعب دوراً كبيراً في تأصيل نظام أخلاقي مبني على الطاعة، تسرب من خلال الأدب الفارسي، ما أفضى بالجابري -كما تقول البناء- لتبني لموقف حاد من شخوص مثل: سالم بن عبد الرحمن، الذي نقل من رسائل أرسطاليس إلى الإسكندر من اللغة الفارسية، والتي يبين الجابري بأنها منحولة، إلى جانب عبد الحميد الكاتب، المؤسس الفعلي لخطاب التراسل، الذي كان كما يقول الجابري «وسيلة لإذاعة القيم التي تريد السلطة نشرها وتكريسها»، والذي كان على صلة بالثقافة الفارسية، ما انعكس على الحضور المبكر لموروثها في عملية تأسيس الفكر الأخلاقي في الثقافة العربية، باعتبار أن نصوص هؤلاء وموضوعاتهم لم يسبق لها مثيل في الثقافة العربية، إلى جانب ابن المقفع الذي يرى الجابري أنهُ كرس كل جهده لنقل أدب الفرس، ونصوصهم الأخلاقية والسياسية، وأنهُ كان «أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية وإيديولوجيا الطاعة في الساحة الثقافية العربية الإسلامية». وترى البناء بأن الجابري يعتبر موقف هؤلاء الثلاثة، موقفاً تأمرياً، «وإن كان لم يفصح عن ذلك بالقول»، وكانت وظيفتهم كما يرى هي ترسيخ قيم الطاعة، وتقوية عضد الدولة.
ومن الموروث الفارسي (أخلاق الطاعة)، إلى الموروث اليوناني (أخلاق السعادة)، إذ تؤكد البناء بأن الجابري رأى في الموروث اليوناني عكس مافي الفارسي، إذ أن «مركز اهتمام الفكر اليوناني مرتكزٌ على الفرد، إذ حاولت الفلسفة الأخلاقية اليونانية إلى إرجاع الأصل إلى الإنساني»، كما تقول، مبينةً أن الجابري رأى بأنهُ «ليس للنظريات الأخلاقية عند اليونان أصلاً في السياسة، كما هو الشأن في الفكر الأخلاقي الساساني في فارس. ذلك أن البحث العالم في الأخلاق عند اليونان قد ارتبط تاريخياً بالفلسفة، أي ببناء تصور للكون، وليس بتششيد إمبراطورية»، كما رأى، مبيناً أن «مركز الاهتمام هو الفرد وليس الدولة، والدولة نفسها في الفكر اليوناني لم تكن سلطاناً أو سلطنة، بل كانت مدينة، والمدينة ليست إمبراطورية ولا ملكية، كما أنها ليست مجرد مكان، بل هي منسوبة إلى المواطن، فالأصل فيها هو المواطن، ومن هنا كانت الدولة/ المدينة هي مجموعة من المواطنين». وتذكر البناء الشخوص التي ذكرها الجابري باعتبارها أكثر من تأثر بهذا الفكر، وهم الفلاسفة العرب، كالكندي، وثابت بن سنان، والفارابي، وابن رشد.. إلخ، وكيف أضفى هؤلاء طابعاً إسلامياً على الفكر اليوناني.
أما المورث الثالث الذي لعب دوراً في تشكيل الفكر الأخلاقي العربي، فهو الموروث الصوفي أو كما يسميه الجابري، (أخلاق الفناء.. وفناء الأخلاق)، والذي يعتقد بأنه «دخل بمفهوم سلبي»، إذ توضح البناء بأن الجابري «يرفض عروبة التصوف جملةً وتفصيلاً»، ويرى بأن مفاهيم المتوصفة لا أصل لهُ في الإسلام، بل لا أصل لهُ عند عرب ما قبل الإسلام، إذ يرى بأن مرتكز التصوف «فكرة الفناء» وأخلاقها، «لابد أن تكون من الأمور الوافدة، إما مع الموروث الفارسي وإما مع الموروث اليوناني»، بل يرى كل مدعٍ لكون التصوف ذو أصل مرتبط بالأولياء وبالتبحر في علوم الشريعة، أنهُ أبعد ما يكون عن الحقيقة التاريخية فيما يخص أصول التصوف، النظري منه والعملي.
ويقول الجابري في هذا السياق «يمكن للمرء أن يفترض أنه كما تبنت الدولة الأموية سلاح القيم الكسروية وأخلاق الطاعة لتحارب به الحركات المعارضة الثائرة عليها، بعد أن ألبسته لباساً إسلامياً، عمدت بعض هذه الحركات من جهتها إلى تبني نفس السلاح الذي قاومت به المعارضة في إيران النظام الكسروي، وعملت هي الأخرى على إلباس هذا السلاح لباساً إسلامياً، فجعلت من أخلاق الفناء أخلاقاً إسلامية بالتأويل، بهدف توظيفها ضد الحكام الأمويين إن لم يكن ضد دولة العرب ككل»، وهذا ما توضحهُ البناء في كون الجابري يرى بأن رموز التصوف الأوائل، ذوو أصول فارسية، وأنهم أبناء ملوك سابقين، ونتاج خسارة الزعامة، اتجهوا للتصوف ليؤسسوا نوعاً آخر من الزعامة، ترتبطُ بالدين، جعلتهم يعتقدون بأنهم «ملوك الآخرة».
وتوضح البناء رؤى الجابري لنواتج التصوف، إذ «من القيم التي أفرزها التصوف، تلك المتعلقة بالشيخ والمريد، وهي شكل من أشكال الهرمية، التي استعان الصوفية على تأصيلها من خلال تأويل الآيات، في سياق تأصيل هذا النوع من الطاعة»، مبينةً أن هذه المفاهيم، انتجت مفهوم «الأدب»، كما ينقل عن الهجويري قوله «التصوف كله آدب، لكل وقت أدب، ولكل مقام أدب، ولكل حال أدب».
والأدب في مفهوم الصوفية كما يقول الجابري «ليس من قبيل المستحبات والنوافل التي مرتبتها بعد مرتبة الفرض والسنة، كما في الفقه، كلا، إن (الأدب) عند المتصوفة أقوى منزلة وأعظم شأناً»، وينقل الجابري القول الذي يذهب إلى أن «التويحد موجب يوجب الإيمان. فمن لا إيمان له فلا توحيد له. والإيمام موجب يوجب الشريعة. فمن لا شريعة له فلا إيمان ولا توحيد. والشرقة موجب توجب الأدب، فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد»، مؤكداً بأن الأدب أصبح «شرط صحة لكل من الشريعة والإيمان والتوحيد». ليؤكد بأن الفكر الأخلاقي أضحى بإزاء أدب آخر، «ليس مجرد خلق يتصف به الإنسان بالفطرة أو بالعادة، بل هو سلوك يتصف بالقصدية. فـ (الأدب) هو سلوك واعٍ ومنظم إزاء طرف آخر».
أما الموروث الرابع، فهو الموروث العربي الخالص، المتمثل في «أخلاق المروءة»، إذ تؤكد البناء، بأن «الجابري يرى بأن القيمة المركزية في الموروث العربي، هي قيمة المروءة التي ارتبطت بالسؤدد والسيادة، وهذا ما يوردُ عليه الكثير من الأمثال والنماذج، من الخطب والأقوال والأشعار التي سطرها الأولين»، إذ يعرف الجابري المؤوءة بكونها «ملتقى مكارم الأخلاق يتم تحصيلها ببذل الجهد وتحمل المشقة، وهي تكسب صاحبها، في مقابل ذلك، احتراماً وتقديراً وتجعله قدوة وذا كلمة مسموعة، مع ما ينتج عن ذلك من سلطة ونفوذ معنويين».
ومن الموروث العربي الصرف، إلى الموروث الإسلامي الخالص، إذ تبين البناء «إن الجابري يرى موروثاً خامساً هو الموروث الإسلامي الخالص الذي يقوم على الآيات والأحاديث، خاصة وأنهُ يعتبرُ القرآن الكريم كتاب أخلاق، أما الأحاديث النبوية، فهي أكثر من أن تصحى في موضوع الأخلاق»، وتضيف «إن القيمة المركزية في هذا التراث، هي (العمل الصالح)، بيد أن الجابري يؤكد بأن هذه القيمة لم تعالج في السياق الفكري العربي والإسلامي».
وتختمُ البناء بالتأكيد على صعوبة التصدي لقراءة الجابري، نظراً لتوسعه في قراءة التراث، بيد أنها بينت «إن الجابري بالغ في قراءته لتأثيرات الموروثات الأخرى على الثقافة الإسلامية، وذهب بعيداً في رفض هذا التداخل»، مضيفةً «إن ذلك ما جعل منهجية الجابري، محل تساؤل، خاصة ممن تصدوا لنقده، كالمفكر السوري جورج طرابيشي الذي لم يرى الجابري بوصفهِ حداثياً!».


الأيام : https://www.alayam.com/alayam/Variety/782590/News.html